Tuesday, January 28, 2014

تاريخ الهة اليونان:


إذا بحثنا عن العناصر الموحّدة في حضارة هذه المدائن المتفرقة وجدنا منها خمسة عناصر جوهرية: لغة مشتركة ذات لهجات محلية؛ وحياة ذهنية مشتركة لا يعرف من رجالها في الأدب والفلسفة والعلوم خارج حدود بلادهم السياسية إلا كبارهم، وشغف مشترك بالألعاب الرياضية ينفسون به في المباريات التي تقام بين الأفراد في المدن نفسها أو بين الدول بعضها وبعض، وحب للجمال تعبر عنه المدن بأشكال من الفن عامة بين الجماعات اليونانية كلها، وطقوس وعقائد دينية موحدة بعض التوحيد.

وكان الدين عاملاً في التفرقة بين اليونان بقدر ما كان في وحدتهم. فقد كان من وراء عبادة آلهة الأولمبس العامة البعيدة، وهي العبادة التي كان فيها قسط كبير من الأدب والمجاملة، عبادة أقوى منها للآلهة وللقوى التي تدين بالطاعة لزيوس. وكانت النزعة الانفصالية القبلية والسياسية تغذي الشرك وتجعل التوحيد مستحيلاً. فقد كان لكل أسرة في أيام اليونان القديمة إلههاً الخاص، توقد له في البيت النار التي لا تنطفئ أبداً، وتقرب له القربان من الطعام والخمر قبل كل وجبة. وكان هذا الاقتسام المقدس للطعام بين الآدميين والآلهة أول الأعمال الدينية الأساسية التي تعمل في البيت. وكان المولد والزواج والموت تُخلع عليها هالة من القداسة بالطقوس القديمة أمام النار المقدسة، وبهذه الطريقة كان الدين عاملاً في خلق الشعر الصوفي وفي إكساب الحوادث الرئيسية في الحياة البشرية مسحة من الوقار أعانت على استقرارها وثباتها. وكذلك كان لكل جماعة بطناً كانت أو عشيرة أو قبيلة أو مدينة إلهها الخاص، بها فكانت مدينة أثينة تعبد الإلهة أثينا؛ وإلوسيس تعبد دمتر، وساموس تعبد هيرا، وإفسوس تعبد أرتميز، وبوسيدونيا تعبد بوسيدون. وكان وسط المدينة وأعلى مكان فيها ضريح إلهها، وكان الاشتراك في عبادة إلهها رمز مواطنيها وميزتهم والواجب المفروض عليهم. وإذا ما خرجت المدينة للحرب حملت معها في مقدمة جيوشها صورة إلهها وشعاره، ولم تكن تخطو خطوة خطيرة إلا بعد استشارته بسؤاله عما يخبئه الغيب لها. وكان لها عليه في نظير هذا أن يحارب في صفها، وكان يبدو لأهلها أحياناً أنه قد يتجلى لهم في مقدمة الجيش أو فوق رماح الجنود. ولم يكن النصر مقصوراً على غلبة مدينة لمدينة بل كان يشمل فوق ذلك غلبة إله لإله. وكانت المدينة، كما كانت الأسرة وكما كانت القبيلة، تحتفظ على الدوام بنار مقدسة موقدة عند مذبح عام في بهو المدينة، ترمز لحياة منشئتها وأبطالها القوية الخالدة؛ وكان مواطنوها يجتمعون في مواسم معينة ليطعموا جميعاً أما هذه النار. وكما كان أب الأسرة هو أيضاً كاهنها، كذلك كان حاكم المدينة الأكبر أو أركونها كبير كهنة قي دين الدولة، وكان الإله يخلع على سلطانه وأعماله كلها ثوباً من القداسة. وهكذا استحال الإنسان بفضل تجنيد الآلهة على هذا النحو من صياد جوال إلى مواطن مستقر.

وحرر الاستقلال المحلي خيال اليونان الديني من القيود فأخرج للعالم أساطير دينية موفورة ومجموعة كبيرة من الآلهة. فكان كل شيء وكل قوة في الأرض أو السماء، وكل نعمة أو نقمة، وكل صفة- ولو كانت رذيلة- من صفات الإنسان، تمثل إلهاً في صورة بشرية عادة. وليس ثمة دين يقرب آلهته من الآدميين قرب آلهة اليونان. وكان لكل حرفة، ولكل مهنة، ولكل فن، إله خاص أو راع حارس؛ بلغة هذه الأيام. وكان عند اليونان فضلاً عن هذا شياطين، ونساء مجنحة، وآلهة انتقام، وجن، وأرباب بشعة المنظر، وإلاهات ذوات صوت شجي يسلب العقول، وحور عين في البحار والغاب لا يقل عددهن عن سكان الأرض من الآدميين. وفي هذه البلاد بنوع خاص لا تبقى حاجة للسؤال القديم "هل الدين من وضع الكهنة؟". ذلك أن من غير المعقول أن أية مؤامرة يدبرها رجال الدين الأولون تستطيع أن تخرج هذه الكثرة من الآلهة. وما من شك في أن من أكبر النعم التي ينعم بها هؤلاء الأقوام أن يكون لهم كل أولئك الآلهة، وكل هالة القصص الفتانة الساحرة، وكل هذه الأضرحة المقدسة والحفلات المهيبة المرحة. لقد فُطر الإنسان على أن يعبد آلهة متعددة كما فُطر على الزواج من نساء متعددات، ولا يقل عمر فطرته الأولى عن فطرته الثانية، لأنها توائم كل المواءمة ما في العالم من تيارات متعارضة. وإن مسيحية البحر المتوسط في هذه الأيام لا يعبد فيها الله بقدر ما يعبد فيها الأولياء والقديسون. ذلك أن الشرك هو الذي يوحي إلى حياة السذج بالأساطير وما فيها من خيال وسلوى؛ ويهب النفس الذليلة المعونة والراحة واللتين لا تجرؤ على انتظارهما من كائن أعلى رهيب بعيد لا تستطيع الوصول إليهِ .

وكان لكل إله من الآلهة أسطورة (Mythos) أي قصة، متصلة به تشرح سبب وجوده في حياة المدينة، أو تفسر الطقوس التي تقام تكريماً له.

وقد أصبحت هذهِ الأساطير التي نشأت نشأة تلقائية مما في المكان ومما لدى الناس من معارف، أو كانت من وضع الشعراء الدواوين وزخرفهم، أصبحت هذهِ الأساطير عقيدة اليونان الأولين، وفلسفتهم، وآدابهم، وتاريخهم، جميعاً. فمنها استمدوا الموضوعات التي زينوا بها مزهرياتهم، وهي التي أوحت إلى الفنانين ما لا يحصى من الرسوم، والتماثيل، والنقوش. وقد ظل الناس إلى آخر أيام الحضارة الهيلينية يخلقون الأساطير، بل يخلقون الآلهة أنفسها، رغم ما أنتجته بحوثهم الفلسفية، ورغم محاولات عدد قليل منهم دعوة الناس إلى التوحيد. لقد كان في وسع رجال من أمثال هرقليس أن يعدوا أمثال هذهِ الأساطير مجرد مجازات وتشابيه، وفي وسع آخرين أمثال أفلاطون أن يعدلوها ويوفقوا بينها وبين ما تقبله العقول، وفي مقدور رجال من أمثال زنوفانيز أن ينددوا بها وينبذوها؛ غير أن بوزنياس، حين طاف ببلاد اليونان بعد خمسة قرون من عهد أفلاطون، وجد الخرافات والأساطير التي كانت تثير الحمية في قلوب الأهلين في عصر هومر لا تزال حية قوية. ذلك أن عملية تشعير الأساطير، وتشعير الدين عملية طبيعية، تحدث في هذهِ الأيام كما كانت تحدث على الدوام في العصور الخالية؛ وثمة نسبة للوفيات ونسبة للمواليد بين الآلهة. فالألوهية كالطاقة تبقى كميتها مهما تغيرت صورتها لا تكاد تنقص أو تزيد خلال الأجيال المتعاقبة .

No comments:

Post a Comment